بينا فى اللقاءين الماضيين أن عدم العمل بالسنة فى بيان القرآن ليس إلا رفضًا للقرآن نفسه بتعطيل آيات كثيرة منه، وذكرنا أقوال العلماء التى تؤكد ذلك، وضربنا بعض الأمثلة التى تبين احتياج القرآن فى بيانه للسنة، ونضيف المزيد:
- قال تعالى: )وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ( (المائدة: 38). ففهمنا وجوب قطع يد كل منهما.
ولكن ما هى السرقة الموجبة للقطع؟ أهى السرقة اللغوية بجميع أنواعها أم شىء آخر؟ إن كان شىء آخر فما هو؟ وما شروطه؟ وما نصاب المال الذى توجب سرقته القطع؟ وما كيفية هذا القطع؟ أتقطع اليد من مفصل الكتف أم من مفصل المرفق أم من مفصل الكوع؟ وهل يتكرر القطع عند تكرار السرقة؟ وهكذا، وفى القرآن الكثير من ذلك([1]).
ويؤيد ما ذكرنا قول ابن حزم رحمه الله: فى أى قرآن وُجِد أن الظهر أربع ركعات، وأن المغرب ثلاث ركعات، وأن الركوع على صفة كذا والسجود على صفة كذا، وصفة القراءة فيها والسلام، وبيان ما يُجْتَنَب فى الصوم، وبيان كيفية زكاة الذهب والفضة، والغنم والإبل والبقر، ومقدار الأعداد المأخوذ منها الزكاة، ومقدار الزكاة المأخوذة، وبيان أعمال الحج من وقت الوقوف بعرفة، وصفة الصلاة بها وبمزدلفة، ورمى الجمار، وصفة الإحرام، وما يُجْتَنب فيه، وقطع السارق، وصفة الرَّضاع المحرم، وما يحرم من المآكل، وصفتا الذبائح والضحايا، وأحكام الحدود، وصفة وقوع الطلاق، وأحكام البيوع، وبيان الربا، والأقضية والتداعى، والأيمان، والأحباس، والعمرى، والصدقات وسائر أنواع الفقه؟ وإنما فى القرآن جمل لو تُركنا وإياها لم ندر كيف نعمل بها؟ وإنما المرجوع إليه فى كل ذلك النقل عن النبى (ص)، وكذلك الإجماع إنما هو على مسائل يسيرة، قد جمعناها كلها فى كتاب واحد، فلابد من الرجوع إلى الحديث ضرورة، ولو أن امرأ قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا فى القرآن، لكان كافرًا بإجماع الأمة، ولكان لا يلزمه إلا ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل، وأخرى عند الفجر؛ لأن ذلك أقل ما يقع عليه اسم صلاة، ولا حد للأكثر فى ذلك، وقائل هذا كافر مشرك حلال الدم والمال، وإنما ذهب إلى هذا بعض غالية الروافض ممن قد اجتمعت الأمة على كفرهم، وبالله التوفيق.
ولو أن امرأ لا يأخذ إلا بما اجتمعت عليه الأمة فقط ويترك كل ما اختلفوا فيه مما قد جاءت فيه النصوص لكان فاسقًا بإجماع الأمة، فهاتان المقدمتان توجبان بالضرورة الأخذ بالنقل([2]).
آيات يتوهم من ظاهرها صدق شبهة الاكتفاء بالقرآن:
إن الله I يقول: )مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ( (الأنعام: 38).
والمراد من الكتاب فى الآية اللوح المحفوظ وليس القرآن، فإن اللوح المحفوظ هو الذى حوى كل شىء، وهو المشتمل على جميع أحوال المخلوقات على التفصيل التام، كما قال النبى (ص): (جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة)([3]).
يقول الإمام الطاهر بن عاشور: وجملة )مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ( معترضة لبيان سعة علم الله تعالى وعظيم قدرته، فالكتاب هنا بمعنى المكتوب، وهو المكنى عنه بالقلم المراد به ما سبق فى علم الله وإرادته الجارية على وفقه كما تقدم فى قوله تعالى: )كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ( (الأنعام: 12). وقيل الكتاب: القرآن، وهذا بعيد إذ لا مناسبة بالغرض على هذا التفسير، فقد أورد كيف يشتمل القرآن على كل شىء؟([4]).
ويؤيد أن المراد من الكتاب فى الآية هو اللوح المحفوظ قوله I قبله: )وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم( (الأنعام: 38) فإن أظهر الأقوال فى معنى المثلية هنا أن أحوال الدواب من العمر والرزق والأجل والسعادة والشقاء موجودة فى الكتاب المحفوظ مثل أحوال البشر فى ذلك كله([5]).
وأما قوله تعالى: )وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ( (النحل: 89) قال الشوكانى فى فتح القدير: )وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ( أى: القرآن... ومعنى كونه )تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ( أن فيه البيان لكثير من الأحكام، والإحالة فيما بقى منها على السنة، وأَمَرَهم باتباع رسوله (ص) فيما يأتى به من الأحكام، وطاعته كما فى الآيات القرآنية الدالة على ذلك، وقد صح عنه (ص) أنه قال: (إنى أوتيت القرآن ومثله معه)([6]).
يقول الإمام ابن عاشور: و(كل شىء) يفيد العموم، إلا أنه عموم عرفى فى دائرة ما لمثله تجىء الأديان والشرائع من إصلاح النفوس، وإكمال الأخلاق، وتقويم المجتمع المدنى، وتبين الحقوق، وما تتوقف عليه الدعوة من الاستدلال على الوحدانية وصدق الرسول (ص)، وما يأتى فى خلال ذلك من الحقائق العلمية والدقائق الكونية، ووصف أحوال الأمم، وأسباب فلاحها وخسارها، والموعظة بآثارها بشواهد التاريخ، وما يتخلل ذلك من قوانينهم وحضاراتهم وصنائعهم.
وفى خلال ذلك كله أسرار ونكت من أصول العلوم والمعارف صالحة لأن تكون بيانًا لكل شىء على وجه العموم الحقيقى إن سلك فى بيانها طريق التفصيل واستنير فيها بما شرح الرسول (ص) وما قفاه به أصحابه وعلماء أمته، ثم يعود إلى الترغيب والترهيب من وصف ما أعد للطائعين وما أعد للمعرضين، ووصف عالم الغيب والحياة الآخرة، ففى كل ذلك بيان لكل شىء يُقصَد بيانه للتبصُّر فى هذا الغرض الجليل، فيؤول ذلك العموم العرفى بصريحه إلى عموم حقيقى بضمنه ولوازمه، وهذا من أبدع الإعجاز([7]).
فالبيان فى القرآن على نوعين: بيان بطريق النص القرآنى، وذلك: مثل بيانه أصول الدين وعقائده، وبيانه وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج، وحل البيع والنكاح، وحرمة الربا والفواحش، وحل أكل الطيبات وحرم أكل الخبائث.
وبيان بطريق الإحالة على دليل من الأدلة الأخرى التى اعتبرها الشارع فى كتابه أدلة وحُججًا على خلقه. فكل حكم مما بينته السنة أو الإجماع أو القياس أو غير ذلك من الأدلة المعتبرة، فالقرآن مبين له؛ لأنه بين مُدْرَكَه([8]) ووجهنا نحوه، وأرشدنا إليه، وأوجب علينا العمل به، ولولا إرشاده لهذا المُدْرَك، وإيجابه العمل بمقتضاه لما علمنا ذلك الحكم وعملنا به. فالقرآن إذًا هو أساس التشريع، وإليه ترجع جميع أحكام الشريعة الإسلامية بهذا المعنى([9]).
وبهذا يتبين أنه لا وجه لمن يريد فتنة المسلمين وهدم الدين بدعوى الاكتفاء بالقرآن، وهو فى الأساس يريد إزاحة السنة، وبعد ذلك يبدأ فى إزاحة القرآن، وينبغى على المسلم التمسك بدينه كما نقل إليه من لدن النبى (ص) وأصحابه، حتى يومنا هذا، كما أن فى تلك الدعوة مخالفة صريحة للقرآن الذى يدعى بعضهم الاكتفاء به.
والله تعالى أعلى وأعلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) حجية السنة، للشيخ عبد الغنى عبد الخالق ص323.
([2]) الإحكام فى أصول الأحكام 2/207.
([3]) جزء حديث ابن عباس 5 رواه الطبرانى فى المعجم الكبير 11/223، والبيهقى فى شعب الإيمان 7/203.
([4]) التحرير والتنوير 7/217.
([5]) حجية السنة، للشيخ عبد الغنى عبد الخالق ص385.
([6]) رواه أحمد فى مسنده 4/130.
([7]) التحرير والتنوير 14/253.
([8]) المدرك: مكان الإدراك وهو الدليل؛ لان الدليل محل إدراك الحكم، فالسنة مُدْرَك من مدارك الشرع، وهى مواضع طلب الأحكام. انظر: حاشية العطار على شرح المحلى لجمع الجوامع 2/250، والمصباح المنير ص192 – 193.
([9]) حجية السنة، للشيخ عبد الغنى عبد الخالق ص385.
source:islamwattan
ليست هناك تعليقات: